حسين خوجلي يكتب : النعمة والنعيم آخر المنضمين لوفد التفاوض بجوبا
قريتان بالريف السوداني بينهما وادي كبير غير أن الأنفس متصلة والنسب والتزاوج كسر حدة القبلية ومزاعم الدم النادر الذي لا معنى له.
أشهر شخصيتين في القريتين الطاهر ود جبارة والفاضل ود عوض السيد جمعت بينهما الخلوة ومهنة الجزارة، وحقيبة الفن، والسخرية القارصة ضد الناس (الشُتُر) والأشياء.
كانا أصحاب مروءة (وحلالين مشبوكة ) وفي إحدى جلسات السمر التي جمعت بينهما قال الطاهر لصديقة الفاضل : (عندنا يا الأرباب وليداً مِقشِط ومغيِّب وللأرض قريِّب) وكان يعني ثالوث التهميش الاجتماعي الفلس والسُكر وضعف المظهر.
فرد عليه الفاضل ضاحكا: (ما دام المبروك دا من أهلك بشرفنا، واعتبر المسألة مقضية وانتو يا شيخ الطاهر فناجرة. علي الطلاق “بايظكم يفتح”) وهي عبارة شهيرة عند أهل الكشتينة وفن الاربعتاشر .
ذهب حاج الطاهر وأهله ومعهم العريس (خير البر عاجله) وقد اكتسى العريس جلبابا من (الستورنا) (وشنق) الطاقية الحمراء واعتلى (المركوب) الفاشري (لكن لايصلح العطار ما أفسد الدهر ).
كانت وليمة الغداء بازخة فقد كانت القرى يومها محاطة بالزرع والضرع قبل أن تصبح اليوم مجرد اصطبلات لإيواء البشر العاطلين الذين ينتظرون دولارات المهاجرين إلحافاً.
فاجأ حاج الطاهر صديقه الفاضل بعد نهاية الوجبة وتناول اقداح الشاي والقهوة بطلب مباغت: (الجماعة ديل ياشيخ الفاضل دايرين يشوفوا عروسم) ولأن الطلب كان أمام الجميع فقد اضطر حاج الفاضل للاستجابة على مضض، فنادى على إحدى نساء الدار وطالبها باحضار العروس المرتقبة النعمة بت ادريس. وفي دقائق غير متطاولة أتوا بها في رفقة امرأة مسنة. كانت النعمة فتاة (بائنة الحول) مع شظف في الجسد والهيئة كما تقول نساء الريف (كملانة من لحم الدنيا). لاحظ شيخ الفاضل أن صديقه الساخر الطاهر يهمُ باطلاق عبارة قاتلة سوف تدمر المشروع إن لم تخرج العكاكيز بين القريتين، فاتقاه بتعليق سريع ومفحم ومقنع في آنٍ واحد قائلاً: ( علي الطلاق يا شيخ الطاهر ما تقول حاجة لا إنتو اديتونا راجل ولا نحن اديناكم مراة) .. وعلى حواشي هذا الاعتراف الصادق قام مولانا المنصور ود الحسن إمام المسجد ومأذون المنطقة بعقد القران الميمون وقراءة الفاتحة، وفى خطبة قصيرة تحدث عن فضل النكاح في الاسلام ووصف عريسنا بكل نواقصه بأنه القوي الأمين مثلما وصف عروستنا المتواضعة المزايا بأنها بكر حسناء ودود ولود.
مضت السنوات سراعا وكانت النتيجة غير المتوقعة أن النعمة والنعيم رزقا بابن يعد من أكبر اصحاب المغالق بالمنطقة، والثاني سمسار سيارات لا يُجارى في الكسب، والثالث مهندس بإحدى الشركات الكبرى بالبندر، والإبنة (الحتالة) صاحبة مدرسة يحجُ إليها الأثرياء، وتقبل الطلاب والطالبات بالواسطة لكثرة طالبي الخدمة.
وللنعيم الآن مزرعة وطاحونة وطابونة (ومترة) وبوكس دبل كابينة موديل العام.
وبقدر استمتاعي بقصة هذه الاسرة السودانية الفاضلة أُهدي رمزيتها للمتحاوريين المتشاكسين بجوبا وهم يبحثون عن السلام المستحيل عبر أحلامهم الشوهاء، وشح أنفسهم التي تُبعد هذا الشعب البائس عن السلام، وهم يعلمون أنه الوصفة الوحيدة التي بقيت لنا لنعلن بعدها وطنا يستحق الانتماء، وأننا نقف مباشرة تحت الشمس مثل شعوب الدنيا.
برقية اخيرة لوفد الحركات المسلحة ولوفد حكومة الخرطوم الانتقالية، تواضعوا يا مفترين وخافوا لعنة الأرض والسماء فقد تغطى الشعب بالمزلة وتغطت الأرض بالتعب، فكما قال حاج الفاضل في رده الفاحم (لا اديتونا راجل لا اديناكم مراة). دعوا المأذون الذي انتظر طويلاً أن يُكمل العقد، فقد يئسنا من بواديكم العجاف غير المنتجة، وبقي عشمنا الوحيد في الذرية الصالحة للنعمة والنعيم.