وعلى تاريخ الأدب السوداني أن يسجل , بأن أغاني الحماسة والمناحات هي أدب نسائي خالص . له جمالياته وخصوصيته . فمن العيب في كثير من المجتمعات السودانية أن يمدح الرجل رجلاً مثله حياً , أو ميتاً , إلا نادراً . وهذه الأغاني والأشعار النسائية الخالصة , والتي يعتبرها البعض خالية من الغنائية الخاصة , وهي ليست كذلك , هذه الأغاني تمتاز بالصدق الواقعي , والصدق الفني , والصدق العاطفي . وهذا الثالوث هو الذي كتب لكثير من هذه الأشعار البقاء والخلود . وتأتي ميزة الصدق العاطفي من رقابة المجتمع الضيق لكل ما يقال , فلا يقبل إلا الصدق في الشخصية الممدوحة . وإذا وصفت بما ليس فيها ستصبح شخصية قابلة للضحك والتندر . فالمرأة بأشعارها تكتب الرجولة النموذجية الحق , والتي ستصبح نموذجاً للأجيال القادمة . فهي تصبغ ما وتنقل ما يعرفه الناس عامتهم وليس خاصتهم . وبذلك كانت أغاني الحماسة والمناحات , جزء من التوثيق الاجتماعي للتاريخ السوداني الحديث . ولعل أغاني الهدهدة تمثل شوق الأم ليكون طفلها مثل نماذج الرجولة التي تعرفها وسمعت عنها من شيوخ الدين , والعمد والشيوخ , الذي أعطوا لمجتمعاتهم بأكثر من ما أخذوا . ويأتي الصدق العاطفي في أغاني المرأة والذي يبدو جلياً واضحاً في أغاني المناجاة للابن الغائب البعيد , والذي سافر وطال غيابه . فهي تحن إليه حنيناً صادقاً وتناجيه كأنه يسمعها ويستجيب لها . ( متين يا محمد تعود , متين ترجع وهمي يفوت ) . وغياب الابن ظاهرة اجتماعية عرفتها المجتمعات التي عرف أبناؤها الهجرة مبكراً . وأشعار الحنين إلي الآخر خير من كتبتها هي المرأة السودانية , ولكن أغلبها ضاع ولم يدون .
ويأتي الصدق الفني , من عفوية القول الشعري الشفهي , بعيداً عن الصناعة والتكلف . وقد جاءت بموسيقية رنانة , سهلت تلحينها ومن ثم انتشارها وحفظها . وهي أشعار موزونة ومقفاة بالسليقة . وتلك المجتمعات لا تقبل إلا الشعر المغني والمتداول لحنه من جيل إلى جيل .