حسين خوجلي يكتب :ختام الكلام وبلوغ المرام فى مقام الإمام (هذا المقال حصريٌ على الأنصار والرفاق ..!!)
المشهد الأول
كانت توصيات الاجتماع الخطير يناير عام ١٩٧٠ الذي عقد تحت شعار التحريض الثوري لقصم ظهر الطائفية والأحزاب الرجعية مقدمة لضرب الأنصار بأبا وودنوباوي، واعتقال كل قيادات حزب الأمة والأنصار والاتحاديين والأخوان. وحشرهم في السجون مقدمة لمحاكامات عسكرية ايجازية وقد تمخض الاجتماع بالتكاليف التالية:-
1/ تكليف الرفيق التجاني الطيب لتعبئة العاصمة
٢/ سعودي دراج لتعبئة العمال والشغيلة والحرفيين
٣/ شيخ الأمين لتعبئة المزارعين
٤/ الخاتم عدلان لتعبئة الطلاب
٥/ عبد الله عبيد لتعبئة الصحفيين
٦/ محجوب عثمان وزير الثقافة والإعلام لتعبئة الأجهزة الإعلامية
٧/ محجوب شريف لتعبئة الشعراء التقدميين
٨/ جمعة جابر لتعبئة الفنانين والموسيقيين
٩/ خليل الياس لتعبئة الشباب
١٠/ المهندس مرتضى احمد ابراهيم المهندسيين والمهنيين والنقابات النوعية
11/ وقد تم التكليف (سرا ) لمحجوب طلقة للتنسيق مع الضباط والرتب وأحمد جبارة للتنسيق مع ضباط الصف والجنود وقد اتهم لاحقا بتصفية زملائه الضباط المعارضين فى بيت الضيافة واعدم فى محاكمات الشجرة
المشهد الثاني
وانطلقت شرارة العداء والتحريض كما خطط لها. جاب التجاني الطيب بمواكب حمراء العاصمة أرهبوا فيها الشارع وحرضوا نميري ومجموعة الضباط الأحرار لمنازلة الامام الهادي والأنصار في مسجد السيد عبدالرحمن بودنوباوي والجزيرة أبا.
وأوحى أبالسة الحزب داخل مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة لجعفر نميري أن يزور بالتحدي الثوري النيل الأبيض معقل الأنصار آنذاك حيث يربض أمامهم في الجزيرة أبا غير بعيد.
واستعرت الحملة بمقالات نارية ونداءات تحريضية بالإذاعة والتلفزيون وأناشيد ملتهبة من شاكلة
** تحسبو لعب
شليل ترتار وقيره
جري ونطيط بطان فوق الدميرة
** اشتراكيين على درب النضال ماشين
ونشق أعداءنا عرض وطول
عشان نبني اشتراكية
ودابوا تمرنا جبد شال
بعد مّحل السنين الطال
تلك الكلمات التي ازكى إوارها تجمع الشعراء والفنانين والمسرحيين التقدميين (اباداماك) النصيرى محجوب شريف ،عبدالله على ابراهيم ،على عبدالقيوم ، محمد وردي ، حدربي احمد سعد ، ادريس ابراهيم والقائمة تطول
المشهد الثالث
ولأن الحرب أولها كلام فقد أخذ الكلام مداه في الحملة الهجائية المستعرة ضد الوطنيين مثال: (مات اليوم المواطن اسماعيل الازهري الذي كان مدرساً بالمعارف السودانية)
هل تصدق عزيزي القارئ ان هذه هي صيغة خبر رحيل مفجر الاستقلال ورافع العلم فى اعلام الشيوعيين ؟
استيقظ حي ودنوباوي الهادئ مزعورا على اصوات ارتال من المجنزرات وحاملات الجنود يحاصرون مسجد السيد عبد الرحمن ويقهرون بالسلاح الناري المصلين الابرياء وطلاب الخلوة. واستمرت المجزرة من الساعة الخامسة صباحا إلى ما بعد صلاة المغرب، حيث صار صحن المسجد ساحة للأشلاء والدم المهراق في ابشع مجزرة تشهدها العاصمة السودانية فى تاريخها الطويل . وفي ذات الوقت كان القسم الشمالي بودنوباوي للشرطة يعج بتجمع العسكريين من الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين وهم يديرون بقيادة حمدالله وأبوشيبة وآخرين المعركة غير المتكافئة وهم يقهقهون طرباً. وكان في مقدمتهم عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي ووزير الثقافة والإعلام في تلك الأيام المؤلمة وهو ينقل بأجهزته في الإذاعة والتلفزيون أخبار انتصار قوى الشر وهى تحاصر الحسين وكربلاء السودانية.
المشهد الرابع
قال الشاهد: إن مجموعة من العسكريين والضباط اليساريين حاولوا بدباباتهم ومجنزراتهم اقتحام الجزيرة أبا، ولكن الأنصار البواسل انقضّوا عليهم بالسلاح الأبيض واحتلوا دباباتهم على (الجاسر) ، واقتادوهم إلى مقر الامام الهادي خانعين.
قالوا كذبا مبررين فعلة الاقتحام بأنهم كانوا ذاهبين إلى الجنوب، ولكنهم ضلوا طريقهم إلى الجزيرة أبا
وأثناء وجودهم جاء وفد آخر للتفاوض مع الامام الهادي لإكمال الخديعة فقال لهم الامام: إن كنتم ترغبون في فترة انتقالية لتصحيح الأوضاع وإعادة الديمقراطية بانتخابات نزيهة فإننا لا نمانع شرطنا الوحيد إشهار ذلك وإبعاد الواجهة الشيوعية عن النظام واحلال اولاد بلد مكانهم ووعدوا على لسان قائدهم أبو الدهب أن ينقلوا مطالبه لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وهي في نظرهم عادلة وانهم كموفدين للتفاوض يوافقون عليها بدون تردد وسيقنعون بها رفاق الخرطوم.
هنا تدخل الشهيد محمد صالح عمر أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الخرطوم وأحد ابطال أكتوبر وأحد وزرائها المعدودين بحسه السياسي وتربيته التنظيمية ناصحاً الامام ( أخي الامام أنت لا تعرف هذه العصابة، هؤلاء مجموعة من الكذبة الجواسيس أتوا لاستكشاف مداخل ومخارج الجزيرة لضربها وسحق الأنصار واغتيال إمامهم، ولذلك فإني أرى أن يتم اعتقالهم الآن ومقايضتهم لاحقا بسجناء كوبر من السياسيين في أي مفاوضات مع سلطة الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين ) ولكن الامام الهادي رد في صوفية متوكله: ( أنا اتخذت رأيا يا محمد ولن أتراجع عنه اذهبوا يا ابنائي فأنتم الطلقاء) وأصدر أمره للانصار المتحمسين باقتيادهم حتى الجاسر بأمان، ومساعدتهم في إخراج عرباتهم العسكرية ودباباتهم الغارقة على الجاسر، بل أمر الإمام أنصاره بمدهم بالطعام والشراب استعانة على الرحلة الطويلة.
المشهد الخامس
وما أن أكملت المجموعة العسكرية انسحابها وأصبحت في مأمن على مشارف كوستي حتى اطبقت القوات الغازية بعدتها وعتادها على مداخل الجزيرة أبا وحاصرتها وظلت تدك أحيائها السكنية المكتظة بالأبرياء بالمدفعية الثقيلة ولظى النيران المتواصل فتساقط المئات من النساء والشيوخ والأطفال في مجزرة بشعة سكت للاسف عنها الإعلام العربي والعالمي المتواطئ، لأن الضحايا كانوا من ثوار المسلمين البسطاء أحفاد كرري الذين لا بواكي لهم.
حاول الشهيد محمد صالح عمر أن يفك الحصار عن الجزيرة أبا فاحدث حريق محلج ربك للاقطان للفت الأنظار، وفعلا استطاع استدراج القوة المعتدية لمعركة غير متكافئة استشهد فيها الأستاذ الجامعي الشهير التواق للشهادة تلك التي طلبها في فلسطين ونالها في ربك وكان هذا أول تلاحم مبارك بين دماء الأنصار والإسلاميين
المشهد السادس
بعد أن دكت طائرات الميج مسجد الكون ومقر إقامة الامام نصح الشيخ محمد صادق الكاروري وعز الدين الشيخ وعبد المطلب خوجلي مستعينين بقيادات انصارية ومجموعة من شيوخ الانصار نصحوا الامام الهادي بالهجرة وأن الذي جرى هنا مجرد معركة، ولكن الحرب الطويلة قادمة أصر الامام أن يموت شهيداً وسط أنصاره، ولكنه تحت إلحاح الناصحين خرج صوب الحدود الإثيوبية في موكب صغير حزين. كان معه خاله وإبنه الصغير الفاضل وسائقه الملازم الوفي. ودع الامام الشهيد زوجته وأطفاله، وقبل أن ترحل السيارة في جنح الظلام ألقى الامام نظرة حانية مودعة زوجته وابنة عمه السيد عبدالله الفاضل المهدي وأوصاها بأن تكون أماً للأنصار وحفية بالبيت الكبير، وأدمع الجميع وهم يشاهدون هذا الموقف الإنساني الذي لا ينسى.
المشهد السابع
وللاسف حتى في قلب هذه الجزيرة المباركة كان للشيوعيين عيونا رصدت تحرك قافلة الامام الجريحة ساعة بساعة وعلى أعتاب الكرمك استعدت خلية المقاومة لليسار السوداني لأداء دورها الخياني مع مجموعة من العسكريين الذين كانوا على أهبة الاستعداد لأداء دورهم القذر.
حاصروا الامام بهتافاتهم البذيئة التي توارثوها كابراً عن كابر وأطلقوا الرصاص على المجموعة فقتلوا أحد الملازمين وأسروا البقية واستقرت رصاصة على فخذ الامام وتركوه ينزف حتى مات على أكف أصحابه وهم يحاولون عبثا إيقاف النزيف القاتل ويطلبون من هؤلاء القساة النجدة والاسعاف . مات الامام الشهيد وهو يردد الشهادة ويوصي مرافقيه خيرا بالاسلام والسودان والانصار.
المشهد الثامن
وبكرامة ورعاية إلهية وصلت سيارة زوجة الأمام لامدرمان رغم القصف والمخاطرة فى رفقة أطفالها وكان من بينهم دكتور الصادق الهادي الذي كان يومها دون الخامسة، ورغم ذلك قاموا باعتقالهم واحتلال بيت الامام ومحاصرة حارة ودنوباوي الحزينة التي خرجت عن بكرة أبيها متحدية لؤم الإجراءات العسكرية، وبكت نساؤها وشيوخها بلوعة ودمع ثخين إمامهم الشهيد وقتلاهم من الأنصار.
وعلى مرمى حجر من بيت الامام الهادي المحاصر ومسجد السيد عبدالرحمن كانت إذاعة أم درمان وتلفزيون السودان يضجون باهازيج الفرح وأناشيد الشماتة ضد أشرف أبناء السودان وهم يوارون شهداءهم الثرى ويلعقون جراحهم ويعاندون زنازين المراكسة الأوغاد.
ومن المواقف الإعلامية المفجعة التي حرقت قلوب السودانيين ان الإعلام الأحمر قد انتج فيلماً للتلفزيون والسينما المتجولة عرض في كل انحاء السودان عن مجزرة الجزيرة ابا كانت احدى لقطاته تقول بصوت حمدي بدر الدين الجهير ان اجهزة الامن والمخابرات قد وجدت في غرفة الامام زجاجات خمر وملابس داخلية للنساء فأدرك شعبنا الطيب يومها ان هذه الشرزمة ليس لها حدود في الخصومة واغتيال الشخصية ودمغ الاخرين بكل ما في نفوسهم من نقائص وفجور
المشهد التاسع
كنت يومها صبياً في المدارس الوسطى وقد شهدت مجزرة ودنوباوي عيانا، وسمعت قهقهة قيادات اليسار العسكريين والمدنيين بالقسم الشمالي وهم يتبادلون انخاب الانتصار على أبناء شعبنا متناسين أن الله يمهل ولا يهمل فقد رأيناهم بعد عام واحد وهم يتجرعون من ذات الكأس بعد فشل مغامرتهم في ١٩ يوليو ١٩٧١ الذي سقوا منه خصومهم ومعارضيهم الذين كان ذنبهم الوحيد أن قالوا ربنا الله وأن زعيمنا المصطفى وأننا لن نترك بلادنا نهبا للملاحدة والعنصريين وشذاذ الآفاق
المشهد التاسع
كنت احسب أن السياسة والمواقف الوطنية يمارسها المحترفون والعاملون بها والعاملون عليها، ولكن فاجأتني الوالدة الشريفية زينب عليها الرحمة وهي تمنع حين سمعت استشهاد الامام الهادي ايقاد النار في بيتنا لثلاثة أيام وجعلت طعامنا الأسودين التمر والماء. وطيلة هذه الثلاثة أيام لم تنقطع عيونها عن الدموع السواجن ولا الضراعات لله العلي العظيم أن يتقبل الشهيد الكبير كانت تقول لي وهي تستحضر شهادة جدها الشريف أحمد ود طه اول شهداء المهدية الكبار وتوثقه بشهادة الامام الهادي قائلة بأحرف واثاقات انها ( ذرية بعضها من بعض )
ومن الأبيات التي حفظتها عنها وهي تبكي ود المهدي وتطوي بوجدانها صفحة من صفحات التاريخ السوداني المنسي حتى على أيدي أبنائه للأسف:
قلبك مو لحم من الدبادب طاير..
فارس عركة اليوم الخيولو دماير..
الموت يا جليس الحضرة كاسا داير…
سماحتو عليكا زي يوم العريس الساير..
المشهد 11
سبحان الله !! هاهو الزمان يستدير كاملا كهيئته الأولى.
ذات الواجهة القديمة، وذات الوجوه، وذات التحالفات الشيوعيون والقوميون العرب والبعثيون، كل الذي استجد انهم اضافوا عبدالله بن سبأ الجمهوري مفتياً. بل هو ذات التحريض وذات الكراهية للقيم والرجال، وذات الاستبداد والسيطرة والاقصاء. فقط إنهم يبحثون خفافاً عن أبا جديدة وامامٍ قتيل بيد أن ١٩ يوليو الجديدة تنتظر وأبواب المخابرات مواربة وما أشبه الليلة بالبارحة.