حسين خوجلي يكتب: نميري وعوض الله وشدو وما أشبه الليلة بالبارحة

بعد أن انقشعت الموجة السوداء المايويه لليساريين بعد مجازر الانصار وانقلاب ١٩ يوليو الدموي، اضطر نظام مايو مراجعة الكثير من القرارات المشؤومة المتعجلة التي كان يقف وراءها الرفاق والنشامى. ومن تلك القرارات التي أفسدت الحياة الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا قرارات تطهير الخدمة العامة، وقرارات التأميم والمصادرة.

وفي اجتماع مشهود للرئيس نميري ضم عدداً مقدراً من رجال الاعمال السودانيين الذين تضررت سمعتهم ومصالحهم من تلك القرارات المجحفة، كان أبرزهم رجل الاعمال الوطني الراحل محمد احمد عباس وتوفيق عثمان صالح ممثلا لأسرة عثمان صالح وحجار وآخرين.
واعترف جعفر نميري يومها بأن قرارات التطهير والتأميم والمصادرة كانت من أسوأ القرارات التي وقع عليها وقد اضرت بسمعة الاقتصاد السوداني، وسوف تكون جراحاتها غائرة لزمان طويل. وقد وعدهم الرجل باسترجاع الممتلكات والتعويض ورد الاعتبار وقد فعل بعض ما وعد به.

وحكى في ذلك الاجتماع حزمة من المعلومات ختمها بطرفة، فقد ذكر لهم بأن إعداد قوائم الكفاءات التي طردت من الخدمة العامة والجامعات والقضاء والدبلوماسية وسلب رجال الاعمال والشركات قد أعد قوائمها فاروق أبو عيسى عن الحزب الشيوعي، وبابكر عوض الله عن القوميين العرب، وبدر الدين مدثر عن الاشتراكيين العرب (حزب البعث)، وأضاف بأنهم كعسكريين لم يكن لهم أي دور في هذه القوائم – وقد كان اليسار يومها يشكل الحاضنة الشعبية والدماغ لحركة مايو مثلما يفعل اليوم بديسمبر وقع الحافر على الحافر- وقالها بمنتهى الجرأة بأنهم كانوا (يبصمون) على تلك القوائم والقرارات باعتبار أن الشيوعيين والقوميين يمتلكون الكتابة والحكمة وفصل الخطاب.

وافترت اسارير الرجل وهو يحكي لهم حادثة تصفية القضائية وتبديد الكفاءات العاملة فيها من القضاة والمستشارين. دخل علي مولانا بابكر عوض الله وكان يومها نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء -ومن المعلوم أنه كان قبل تدبير الانقلاب وتنفيذه مرشح الحزب الشيوعي وقوى اليسار قاطبة بمنصب رئيس الجمهورية وقد اعدت حملته لمنازلة الازهري عليه الرحمة- أطلعني الرجل على القائمة التي احتوت أسماء القضاة المبعدين من اصحاب الاسماء الشهيرة، وطلب مني أن اراجعها معه حتى تذاع عبر المعابر الاعلامية بالاذاعة والتلفزيون والصحف، وكان الرفيق محجوب عثمان وزير الاعلام يومها ينتظرها بلهفة وعلى أحر من الجمر.
قال النميري لبابكر عوض الله: (أنت تعلم يا مولانا أننا كعسكريين لا خبرة لنا في دهاليز الخدمة العامة، ونحن على ثقة بأنكم لن تظلموا أحدا، وأنا شخصيا لا أعرف من القضاة السودانيين إلا ابن دفعتي وصديقي مولانا القاضي عبد العزيز شدو، وكانت دهشة نميري عظيمة حين صاح بابكر عوض الله ( الله يا ريس دة انا ما كنت ناسيهو) وبمنتهى الجرأة أخذ القلم وأضاف مولانا شدو في زيل القائمة. فانفجر جعفر نميري ضاحكا حتى استلقى على قفاه. وعلق لرجال الاعمال قائلا: وبزلة لسان ومن حيث لا احتسب قمت برفد صديقي الوحيد بالقضائية. (وما أشبه الليلة بالبارحة).

عزيزي القارئ وفي هذه المرحلة السياسية القلقة والمضطربة في تاريخ بلادنا، تُرى من هو بابكر عوض الله الخفي ومن هو عبد العزيز شدو المطرود؟