حسين خوجلي يكتب : ود أمي ياناسي .. حكاية ما بين الفن والسياسة

لأهل الفن والسياسة والرياضة والفنون في بلادنا أسمار ماتعة وحكايات رائعة، فبجانب إشاعتها لمناخ طليق من المرح فإن فيها الكثير من المعاني والتدبر والفائدة . حكي لي أحد قدامى النقاد بأن مطربا كبيرا تتسم ألحانه بالجمال والتعقيد في البنية اللحنية والتوزيع مما يدخل فرقته الموسيقية في سلسلة من البروفات المضنية حتى يخرج أغنيته الجديدة في كامل بهائها وإشراقها .
كان المطرب الكبير مولعا بالمقدمات والانتقالات اللحنية والتوزيع وقد اشتهر أيضا بأنه دونجوان عصره فكان كثير المعجبات وكثير الحبيبات والعاشقات ، وقد تعلق قلبه مرة بمعجبة حسناء لفتت الأنظار بقوامها المياس وروحها الرشيقة وصفات أخرى امتلكت بها قلب مطربنا الكبير حيث أصبح لا يستطيع عنها فراقا ولا يرد لها طلبا .
وفي إحدى الأيام همست في أذنه بصوتها الرخيم الآمر بأن شقيقها الأصغر زياد له بدايات موفقة مع آلة الكمان وكلها رغبة لينضم إلى فرقة مطربها وحبيب قلبها ورغم علمه بأن الفرقة يتوسطها سبعة من عازفي الكمنجات الحاذقين وسليطي اللسان إلا أنه أذعن بالموافقة ( وهل يرد العاشق للحبيب طلبا ) وفي إحدى ليلات البروفات جاء زياد شقيق الحبيبة وفيه من ملامحها الكثير وقد تأبط كمنجة صقيلة اللون تسبقه ابتسامته وعطره الفواح توسط بزهو أباطرة الكمنجات بأوركسترا الإذاعة والتلفزيون بلا استئذان فقد كانت بطاقة دخوله عبارة قاطعة من المطرب الكبير بأن زياد سيكون أحد أعضاء الفرقة الموسيقية . هنا تلفت كبار العازفين وتبادلوا النظرات التي تقول الكثير والمثير والخطير هالهم القرار لكنهم تناسوا الفاجعة إلى حين.
بدءوا في عزف المقدمة الموسيقية الصعبة للأغنية الجديدة وفي غمرة ضجيج الآلات الوترية والكهربائية والطبول لم يتلمس أو يميز أحد منهم طريقة العزف الضعيفة للناشط زياد وقد لحظوا أنه كان ( يلبد ) وراء أداء الآخرين حتى لا يكتشف أحد ضعفه وقلة خبرته وبعد دقائق من بداية البروفة استأذن الفتي بحجه مشوار مهم أو بالأحرى ولى هاربا .
وما أن اختفت خطواته حتى صاح محمدية (عليه الرحمة) بكلماته اللاذعة وابتسامته الشهيرة: تعرف يا عربي لو توقفنا فجأة كان لقيت الجربوع دا بعزف في ود أمي ياناسي أنا العزاب على قاسي، وهي من دارج ومستسهل غناء البنات في بيوت الأفراح. وتعالت ضحكات الأوركسترا بالتعليقات ذات الأشواك والمخالب ودخل الفنان الكبير في عاصفة من الضحك (والقرقراب) مشاركا أبناء حفرته في إدانة العازف المبتدئ الهارب ومعتذرا عن ندوته التي كادت أن تلغي تاريخه الطويل في احترام الموهبة والمؤسسية . وكانت الحادثة حديث المدينة بعدها وقد أضاف لها المجتمع الأمدرماني الكثير من الإيحاءات.
ومنذ ذلك اليوم انقطع خبر زياد وشقيقة زياد وعاد المطرب الكبير اليرشده سربه آمنا .
إن المبدعين في بلادنا دائما ما ينالون العافية ويشتفون من هوي الناشطين والناشطات ولكن للاسف فإن الساسة وصناع القرار في بلادنا لا تطالهم العافية ولايشتفون فدائهم عضال وشيطانهم أكبر حتى وإن كان حصاد هذا الهوى أن يتحول كل حلم شعبنا إلى قطعة خبز سمراء لها قوام وغنج ودلال ودلال .
حاشية … اعتذارا عن تجاوزي لفضيلة التوثيق فإني أعترف لاستبدالي لصفة محمدية التي منحها للفتي بمفردة جربوع مع أن الأصلية المستبدلة كانت أبلغ رغم تمردها .