حسين خوجلي يكتب: ليلة جوبا اليتيمة!!

كنت متيقناً بأن الدكتور جون قرنق بحنكته العسكرية وإمكانياته الأكاديمية قد إستطاع إستخدام مجموعة من القيادات الشمالية السياسية والعسكرية لخدمة مخططه الانفصالي وقد تطابقت أحلامه في الزعامة مع أحلام الغرب في إقامة دويلة صندوق مسيحية صليبية تقف أمام المد الاسلامي المعتدل صوب شرق القارة وغربها وجنوبها وكان لهم في تدابير قانون المناطق المقفولة في العهد الاستعماري أسوة حسنة. وكنت واثقاً بأن هذه القيادات قد رضيت بهذا الدور لهذا المخطط عن وعي إنقياداً لشح النفس وبيع الخبرات لصالح مشروع القطب الواحد وعالم المنظمات وحقوق الإنسان المزيف والفوضى الخلاقة. وقد أحسست بكثير من الأسى وأنا أرى مجموعة التكنوقراط في قامة الدكتور منصور خالد والدكتور الواثق كمير والدكتور حيدر إبراهيم وفي معيتهم بيادق قصعة الشطرنج الآثمة من السياسيين اليساريين الذين باعوا أنفسهم تحت مسمى الليبرالية الجديدة بيسر وإرتخاص يحسدون عليه والطائفيين والعسكريين الذين جمعتهم مقررات مؤتمر أسمرا المشترى.. وكنت واثقاً من أن هؤلاء بعد أن أدوا دورهم المرسوم لهم في تسويق قرنق للعالم العربي والإسلامي والأفريقي وللعقل والوجدان الشعبي السوداني الداخلي سوف يرميهم في مزبلة التاريخ وسلة المهملات وإن لم يفعل في حضوره الفيزيائي فإن تلاميذه قد قاموا بالمهمة بمنتهى الدقة والجدارة وكذلك كنت حريصاً أن أعرف تفاصيل ليلة العرس أو بالاحرى نهار رفع المأتم وإسدال العزاء على الحزن الكبير.
قال الشاهد أنه بعد إعلان نتيجة الاستفتاء الذي قادته الحركة الشعبية العنصرية الانفصالية بمنتهى المهنية بمساعدة اللوبي الغربي والكنسي الأمريكي، عقد مؤتمر ما بعد الإنفصال في قاعة رحيبة بجوبا إنتظم في منصتها الرئيسية الكومرد باقان أموم الناطق الرسمي بإسم الحركة وسكرتير التجمع الديمقراطي، وإستيفن ياك مدير مكتب الحركة في لندن، وإدوارد لينو مدير إستخبارات الحركة ودينق ألور الزعيم غير المتوج لدويلة أبيي (الخازوق). وكان ضيوف الشرف الفاعلين في موازاة المنصة وعرابي الدويلة الوليدة الخواجة جيستن مسؤول المعونة الأمريكية للمناطق الثلاث، والدكتور لايف منجا سويدي الجنسية الذي ندبوه للملمات الخطيرة كما يقول المجذوب. وقد جلست المجموعة الدنيا من الشماليين الذين امتصت الحركة رحيقهم وتمددوا في كراسي الإدانة إن لم تكن الخيانة كفوارغ زجاجات البلاستيك.

كان في الصف الأول:
1- الدكتور منصور خالد المستشار السياسي للزعيم القتيل.
2- ياسر عرمان نصير الحركة وصهرها. وأصدقهم ولاءً لما كان يعتقد أنه الحق.
3- دكتور الواثق كمير توتسكي الحركة.
4- التوم هجو ممثل آل الضريح في موكب السودان الجريح.
5- دياب ممثل إستثمارات الحركة في الخليج.
6- د. أبكر آدم إسماعيل. المسلاتي الذي مثل دار فور في الحركة ذراً للرماد على عيون الوطن.
وبثينة دينار وأخريات سقطت أسماؤهن لضعف السيرة والصورة.
وممثلو النيل الازرق مالك عقار وإبراهيم تكة وإبراهيم العمدة وإستيفن فينن ممثل (الادوك). ومن جبال النوبة جلس على إستحياء وإنكسار بعد أن إنفض السامر كل من:
1- سايمون كالو.
2- جقود مكوار.
3- خميس جلاب.
4- يونس أبو سدر.
وقد وثقت مجلة النفير التي تصدرها مجموعة محمد هارون كافي (الجلسة الملغومة) ومن غير الزمان والمكان والحضور الحزن الذي غطى أنفس الوحدويين وبيوت الشهداء والقادة الأفارقة المؤسسين الذين راقب الأحياء منهم في حزن إنقسام أكبر الأقطار الأفريقية التي كانت موعودة بأن تكون الولايات المتحدة الأفريقية تنافس بتاريخها وإنسانها وتطلعاتها وثرواتها التجربة الأمريكية. لكنه التدبير السيئ والمكر الماحق وعملاء العواصم وخبث الحضارات.
كان الأكثر من ذلك وجعاً ومأساوية الكلمة الأخيرة المصنوعة بدقة لإنهاء الشراكة الخاسرة الحرام، قالها الكومرد باقان أموم في منتهى الجرأة واللؤم والصفاقة بلغة هجين ما بين عربي الرنك وعربي جوبا وهي رطانة فصيحة هجين عرف بها مثقفوا الشلك في الحركة الشعبية:
(تحية للرفاق الذين شاركونا السنوات الطوال في النضال الثوري من المدنيين والعسكريين بالسلاح والمواقف، حتى نالت دولة الجنوب إستقلالها وفي هذا المقام فهناك كلمة لابد أن تقال بمنتهى الصراحة للذين يتساءلون عن مصير القيادات في المرحلة القادمة، كما تعلمون هنال سلوك يمارسه أهلنا في الجنوب والجبال ودارفور والنيل الازرق، وهو سلوك النفير حيث يساعد الأهالي المزارع في إنجاز عمليات الزراعة والنظافة والحصاد وينالون خدمات الطعام والشراب ولكن كما هو معلوم لا ينالون نصيباً من الحصاد).
صمت الرجل قليلاً حتى توقفت همهمات الحضور الذين وقعت عليهم الكلمات وقع الصاعقة، وتلفتوا يمنة ويسرة وتهامسوا وعاد الصمت المريب إلى القاعة من جديد. لم تستمر الجلسة بعد هذه الكلمات الدامغة الرادعة طويلاً. خرج الرجل بعد أن ودع المرتزقة أصحاب الياقات البيضاء في هدوء ليواجهوا مصيرهم ولن أغرق في التفاصيل، وكل الشعب يعرف من بعد بقية الحكاية. فبعيد خطبة الوداع الباقانية أصبحت حكاية النفير منفستو للمرحلة وإجراءات للطرد والمغادرة. لقد كانت الكلمات من بعد ذلك في الاجتماعات اللاحقة مباشرة وخالية من البلوماسية: (لقد نال الجنوب إستقلاله ونحن الآن لسنا في عافية سياسية أو عسكرية تسمح لنا بالدخول في نزاع بسببكم). فأشار القيادي العسكري بيده الطويلة صوب النيل الأزرق والشمال وجبال النوبة وإتجاه الخرطوم.
وبعدها غادر عقار ومجموعته إلى هامش النيل الازرق وغادر الحلو ومجموعته صوب كراكير جبال النوبة، وشوهد ياسر عرمان يتجول في عاصمة الضباب يرمم العلاقات القديمة للراحل قرنق لتصب في أعماله الخاصة، وترتيب معاش أسرته الصغيرة ومستقبله المجهول، وقد تبددت تركة الحركة الشعبية قطاع الشمال بإنقسامها إلى تيارين، تيار عقار على الانترنت، وتيار الحلو على الأرض. وشوهد د. منصور خالد يقضي شيخوخته وحيداً بمنزله الفاخر بالخرطوم شرق بلا صديق ولا أنيس ولا نصير ولا دور مرتجى حيث لم يبق في العمر مايكفي لبدايات جديدة كما يقول غريمه صلاح أحمد إبراهيم. أنا لا أدري ماذا قال الرئيس سلفا كير وهو يودع المجموعة ويقلدها عقود كجور الأماتونج للمباركة، ولكن العبارة لن تكون بعيدة عن مثل السودانيين الشائع (العرجا لمراحها) وإن أردنا نهاية أكثر شماتة وتراجيدية، فهي أن لكل كوتشينة قمار (بوايظ) كذلك لكل حركة تمرد. وفي ردنا لبعض الإنتقادات والمراجعات والنقد الذاتي لبعض الشركاء الآثمين نقول:
إن التوبة أسهل شيئ يشهر ولكن الغفران أصعب شيئ يمنح.