حسين خوجلي يكتب: سري وعاجل وخطير لسيادة النائب العام

رافقت بزنزانة مشتركة بكوبر مجموعة من كبار السياسيين عام ١٩٧٤ وكنت يومها طالب ثانويات ولازمت فيها حزمة من القيادات اعتز بها، ومنهم الوطني والسياسي الكبير احمد خير المحامي وكان يومها شيخا مسناً، بيد أنه كان فارسا لا يخشى في الحق لومة لائم.

خصني بدروس قيمة عن أسرار السياسة السودانية منذ الجمعية الأدبية بمدني مروراً بمؤتمر الخريجين والأحزاب والاستقلال، وتسنمه لحقيبة الخارجية في حكومة ١٧ نوفمبر حتى انقلاب مايو ٦٩، وتلك ايام ارجو أن أوثقها في مذكراتي.

سألني يوما: كيف تخطط لحياتك بعد تخرجك من الجامعة؟
فقلت له: إني أنتوي أن أعمل في مجال الاعلام والصحافة بعيدا عن السياسة وقريبا منها
قال لي: إني أرى فيك أمكانيات محامي ناجح
فقلت له: إن الفرق ما بين الصحفي والقانوني فرق مقدار لا نوع.

ومن نصائحه الذهبية التي بقيت في الذاكرة: اذا قُدر لك يا أبني أن تعمل في هذا المجال فإن هنالك مؤسستين أرجو أن تحرص على احترامهما بلا تردد الشرطة والقضاء وكررها ثلاث مرات. لا أدعي أنني اتذكر كل نصائح الرجل، ولكن هذه النصيحة بالذات ظلت في ذاكرتي حتى كتابة هذا المقال.

ولذلك عندما صادر جهاز الأمن الباطش في عهد نميري العدد الثاني من صحيفة ألوان بعد طباعته واعداده للتوزيع، بادعاء أنني خرجت عن التخصص
لكون الصحيفة ثقافية لكنها دخلت في باب السياسة. مرت في خاطري نصيحة أستاذنا أحمد خير فلجأت للقضاء مباشرة.
وبعد جلستين دافعت فيهما بنفسي دفاع المستميت عن حقي وشرحت للقاضي أن الفرق ما بين الثقافي والسياسي هي مجرد تقسيمات أكاديمية ليس لها علاقة بالواقع، اقترحت الادارة القانونية للجهاز تسوية خارج المحكمة. فجلست مع المستشار القانوني لجهاز الأمن القومي واعتذر لي وقدم لي تعويضا بقيمة خسارتي في المطبوع والاعلان.

وحينما تم تشكيل حكومة الانتفاضة ٨٥ حاصر اليساريون مكتب وزير اعلام وثقافة الانتفاضة الدكتور محمد بشير حامد وطالبوهوا باغلاق صحيفة ألوان. وللأسف استجاب الوزير لارهابهم وقام باغلاقها لأن قانون الصحافة والمطبوعات كان تحت إمرة وزارة الثقافة آنذاك.
ولأن ثقتي في القضاء لم تتبدد فقد لجأت له مرة ثانية وبعد عدة جلسات نلت حكما قضائيا مزلزلاً بعودة صحيفة ألوان وسط دهشة الشيوعيين.

لا أدعي أنني قد كسبت كل القضايا، ولكن لم أحس يوماً أن هنالك تعدي أو محاباة في هذه المؤسسة الوطنية الراسخة. وكانت آخر القضايا التي رسخت في معتقدي هذا المبدأ حين قامت أجهزة الأمن الانقاذية بعد ضربة خليل ابراهيم للعاصمة باغلاق الصحيفة واحتلالها بأجهزة الأمن وتشميع اذاعة المساء ونقل أجهزتها الى مكان مجهول قبل افتتاحها.
ومزايدة في إذلالنا في جنحة جنائية فقد قاموا دون اذننا بكتابة شيك ضمان بمبلغ ضخم وتم مهرهه بعبارة (مرتد لعدم كفاية الرصيد) وظل أحد الضباط يطاردني بأمر قبض فأخفيت نفسي واتصلت بمجموعة من الأصدقاء (أشهد الله ليس من بينهم اسلامي واحد).
وحين أطل الصباح كان المبلغ قد اكتمل تماما فأرسلت شاب اداري بالصحيفة، حيث أخرج شيك معتمد لصالح قاضي الجنايات وذهبت الى القسم الشمالي واكملت الاجراءات وانتظرت قضية جهاز الأمن والمخابرات ضد المتهم حسين خوجلي رئيس تحرير صحيفة ألوان.

كانت القضية أمام قاضي محترم من أبناء جبال النوبة كانت تبدو عليه سمات الاعتداد والحيادية والعلم الرصين، لم يبالي بالمدعي ولا المتهم.
وبعد عدة جلسات دافعت فيها عن نفسي استنادا على تجاربي القضائية السابقة اثبت خلال مرافعتي الغرض والمرض من الدعوة.

اغلق مولانا ملف القضية بعد اكمال الشهود لاعلان الحكم، فاصدر بعدها حكما بحيثيات ناصعة حيث شطب الدعوة وأعلن براءة الصحيفة ورئيس التحرير من التهم الموجهة اليه. حينها ثارت في المحكمة مجموعة من الهتافات ما بين الله اكبر وعاش العدل ومبروك.
وبقدر ما أعجبني اعتداد القاضي بمكانته وعلمه وصرامته، أعجبني الاذعان المهذب للمستشار القانوني لجهاز الأمن والمخابرات. ولذلك اتعجب كثيراً للعقاب بالاجراءات الراهن لعشرات المتهمين من الذين ظلوا في الحراسات لأشهر متطاولة. وكان اخر الضحايا الشريف أحمد عمر بدر الذي ظل في حراسة لا تطاق رغم مرضه لأكثر من ٦ أشهر، مع أن من المعلوم في القانون بالضرورة أن المحاكمة ناجزة والمتهم برئ حتى تثبت إدانته، وأن تطاول الزمان بالعقاب الاداري مظلمة.

إني أخشى أن تتحول المحاكمات القانونية الى ثأرات شخصية، وأكثر ما أخشاه أن تكون الإجراءات السلطوية والأحقاد الحزبية في اليد الباطشة بديلا للعدالة.ولأنني ما زلت اثق في هذه المؤسسة العدلية المستقلة الراسخة أجد نفسي اتوجه بالسؤال البرئ المعلن والذي سكت عنه الملايين.

السؤال موجه كفاحاً ومباشرةً لمولانا تاج السر الحبر النائب العام ما السبب الذي يجعلكم لا تثقون في القضاء السوداني والقضاة السودانيين، وتلجئون لكل هذا التأجيل المجحف والمثير للشبهات، مع أنكم تعلمون علم اليقين أن كفاءتهم وعدالتهم وعلمهم قد فاض عن بلادنا وملأ عواصم الآخرين؟

حسين خوجلي