حسين خوجلي يكتب: البرقية قبل الأخيرة للفريق حميدتي

عندما يحيط الضباب ويُطبق عتمته على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلادنا تعودت أن اتصل بثلاثة من الأصدقاء خارج النادي السياسي ففي الثلاثة عقلانية وحكمة وتجرد ونكران ذات، لا يتدثرون بعصبية تعمي بصيرة التقييم والاستبصار والنقد الذاتي، وقد أجمعوا بأن التهويش والتجويش ودق طبول الحرب هذه الأيام لن يستفيد منه أحد إلا أعداء السودان الذين يحلمون ليل نهار بتمزيقه والتحضير لمزاده العلني وبيعه بدراهم معدودات على قارعة الطريق، وماهي إلا معركة مصنوعةٌ في أصدق الحالات هي (قلة شغلة) أو هروب كبير عن مواجهة التعقيدات الحقيقية التي تعصف بالعباد والبلاد، خاصة إذا علمنا بأن الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” قد قالها (بعضمة لسانه) وبتوقيعه المشهود غير القابل للنفي والتزييف بأنه موافق على دمج قوات الدعم السريع تحت إمرة وشرعية الأب الأكبر الجيش السوداني العريق، الذي ظل يخرِّج العشرات من الواجهات التي ما خرجت يوماً عن طوعه وما فكرت في هذا، هذا الجيش الوطني الذي لم ولن يملكه ولا قبيلة ولا حزبٌ ولا تيار.
والمعركة التي تدور الآن في الميديا والمواقع الإلكترونية ماهي إلا مقدمات تآمرية لجعل المسكوت عنه والذي يشكل طبيعة مثل هذه المؤسسات عرضةً لأنس أهل الهوى وصناع المجالس الهباء التي كتب السيناريو لها ابن سبأ لإثارة فتنة لا توجد إلا في أتون قلوب صانعيها من الأشرار .
وإني لأذكر أنه بعد انكسار ثورة شعبان ٧٣ الطلابية ضد حكم جعفر نميري وكنت يومها قيادي طلابي بالثانويات وقد أصابني وزملائي قهر شديد وانفعال زادت ناره العنفوان والهزيمة الشكلية ايوارا، فقررنا الدخول في إضراب مفتوح وتحدي سافر للسلطة، فكانت النتيجة اغلاق المدرسة الأهلية الثانوية بأمدرمان وأخريات، وتشريد اللجنة التنفيذية بالفصل وإبعاد عن الدراسة، وفقدان منبرنا الحقيقي الذي كنا نتحرك منه.
وهذه الحادثة غيرت مجرى حياتي تماما وإن كنت على فداحتها غير نادم عليها، فقد جلست قبلها بين يدي الوالد الحكيم وصاحب التجاريب الحاج خوجلي محمد حسن عليه الرحمة فاعترض على الخطوة دون أن يُملي علي شروطاً وختم حديثه العذب الصارم بعبارة شعبية شهيرة (أهلك في الوسط يقولون: ترك المرجلة في محل المقدرة مرجلة) يومها لم أدرك المغزى كاملاً للعبارة الشعبية ولم استبين النصح إلا ضحى الغد. فالرجل الحكيم كان يريد منا جدولة المعركة أمام المؤسسة وألا نخوض المعركة كاملةً.

وإن كانت لي نصيحة للفريق أول حميدتي فهي أن يتعالى فوق الشراك التي تُنصب له داخليا وخارجيا بحذقٍ وعنايةٍ وخبث من الذين يتحدثون ببراءة الحملان وهم في الأصلِ ذئابٌ غبرٌ متوحشات، وعليه أن يبحث عن أصدقائه الحقيقيين، وأن يتعوذ من استدراج الأبالسة، وشح النفس وفحيح النفاثات في العقد من الأجهزة والعملاء والشبكات الداخلية والخارجية. وعليه أن يعي بأنه ليس وحيداً فهنالك الملايين الذين يحملون له التقدير للكثير من جلائل الأقوال والأفعال مع الاحتفاظ بوفاء وعتاب أبي الطيب المتنبي:
فإنْ يكُنِ الفِعْلُ الذي ساءَ واحِداً
فأفْعالُهُ اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ
ونَفْسي لَهُ نَفْسي الفِداءُ لنَفْسِهِ
ولكِنّ بَعضَ المالِكينَ عَنيفُ
فإنْ كانَ يَبغي قَتْلَها يَكُ قاتِلاً
بكَفّيهِ فالقَتْلُ الشّريفُ شريف

ويبقى آخر الأمل والرجاء في نزع فتيل المعركة على الأرض وفي القلوب، العبارة التي يقولها الحكماء والمشفقين سراً (إن الرجل بفطنة البادية وقيد المعتقد أذكى من المؤامرة بكثير)