حسين خوجلي يكتب: يا ود العطا صحِّح الخطا

في التسعينات حينما احتدم الصدام وبلغت المعارضة مداها ما بين الانقاذ وخصومها، وصارت اريتريا والقاهرة مقرا للتجمع الديمقراطي الذي ترأسه الميرغني وتصدره عسكريا قرنق، ولعب فيه مبارك الفاضل والتجاني الطيب العلاقات العامة، واستثمر الجميع ثوب الفريق فتحي احمد علي فى اجتذاب الجيش السوداني.

وحين تحالف سلاح الحركة الشعبية مع جيش الفتح وجيش الأمة انثلمت جبهة الشرق والجنوب وكردفان دفعة واحدة. كانت الانقاذ يومها كالسيف وحدها تدفع بأشرف أبناء السودان مؤازرة للجيش، وقد سدوا بدمائهم واجسادهم الطاهرة (الفرقة ) ولم يكن في كل الدنيا غير صيت الخرطوم وصراخ واشنطن. كان الأفق السياسي داخل السودان لا يحتمل أي صوت للمراجعة وأنصاف الحلول، وكان السائد حزبيا وشعبيا (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة )

أذكر تماما هذه الواقعة كأنها حدثت بالأمس حين مررت أمام منزل مولانا محمد عثمان الميرغني فاسترعى انتباهي جمهرة من الناشطين الاسلاميين وقد كنت أعرف أغلبهم، توقفت وسألتهم عن الذي يجري فقالوا لي: إن قرارا ناجزا قد أُعلن بمصادرة أملاك الميرغني وبقية المعارضين لموقفهم العدائي ضد شعبنا وثورته، ومناصرتهم البغيضة للأجنبي. وبناءً على هذا المرسوم فقد قررنا تحويل منزل الميرغني لمستشفى العامرية.

ولأن الصحفيين والاعلاميين هم دائما أقل انفعالا من الكوادر السياسية والأمنية والعسكرية بطبيعة المهنة وتكرار المعلومات والاحداث، قلت لهم ناصحا: دلت كل التجارب أن الخصومات السياسية نسبية وليست مطلقة، ومؤقتة وليست دائمة ولذلك فإني أرى أن تستخدموا هذا المنزل كمقر اداري، لأن استخدامه كمستشفى يفرض عليكم تعديلات جوهرية في المبنى بالمليارات التي يمكن بها أن تشيدوا صرحا طبيا جديدا.

ثانيا هذا المستشفى يقع في قلب الميرغنية وحلة خوجلي وما يجاور الضريح من أحياء، وهذه منطقة تشكل ثقلا تقليديا لنفوذ السادة الختمية، ولذلك لا أحد يجرؤ بالتداوي فيه لأن مجرد الدخول فيه يعد رجس من عمل الشيطان.

ولأن المعارضين بطبيعتهم لايذهبون مع الأجنبي لنهاية الشوط، مثلما أن الحكومات لا تراهن على الجماهير لآخر الميس، فعاجلا أو اجلا سوف يتفق الفرقاء على اتفاق ما وسط دهشة الجميع، وسوف تعود الممتلكات لأصاحبها ويدفع الشعب المسكين فاتورة الصيانة والاجراءات والتعويضات اضعاف مضاعفة.

وقد عددت لهم مجموعة من المواقف المماثلة والسوابق فنظر لي بعضهم شذرا وهمهم البعض بجمل غاضبة فقررت الانسحاب بهدوء قبل أن تحدث ملاسنات وأكون فيها الخاسر الوحيد، لأن الصحفيين والاعلاميين في نظر التنظيميين وأصحاب المطبخ السري (مجرد تمومة جرتق) وفي هذا يستوي اليمين واليسار.

مرت الأيام سراعا وكما توقعت تم توقيع اتفاقية القاهرة واتفاقية نيفاشا وأدى الشيوعيون والبعثيون والطائفيون القسم أمام البشير ، ودخلوا برلمانه ووزارته وتمرغوا في تراب الميري الانقاذي بلا حياء وبراءة الأطفال في أعينهم دون أن يقدموا أي مرافعة أو نقد ذاتي. وفي دفاتري قائمة بالمئات من المستفيدين من الذين أخفوا صكوك الغفران وليس في وجههم مزعة لحم من المسألة والامتيازات الحرام.

ومن سخريات القدر أنني مررت بعد شهور على منزل مولانا بعد الاتفاقية ووجدت مجموعة من (الدفارات) وأيدي غير مدربة من (العتالة) تقتلع الأجهزة الطبية المقدرة بالمليارات إلى حيث لا أدري، ولكنها قطعا سوف تُلقى في أقرب كوشة الكترونية للفوائض والمخلفات.

وعلمت لاحقا أن المعماري “الخليفة” المكلف لإعادة السرايا لسيرتها الأولى صرف المليارات التي كان يمكن أن تشيد قصرا جديدا ومستشفى جديد، بل أن الوكيل الشاطر قد قدر كل الفترة بإيجار المثل الذي لا يطاق.
وكانت آخر المشاوير قبل التسليم والتسلم عربة نصف نقل حملت من محلات “جنبرت” أرقى معارض الأدوات المنزلية بشارع الجمهورية تأسيسا للمطبخ العريق، وأكملوا الاستعداد بالأثاث المنزلي الفاخر والستائر والطنافس والمفروشات وكذلك فعلوا لعشرات العائدين.

أُهدي هذه المشاهدات لكادر البعثي وجدي صالح والشيوعي صديق يوسف ناصحا ومحذرا بأن أي اجراءات لا تتم وفق معايير العدالة والقضاء السوداني النزيه، سوف تكون عاقبتها وخيمة على الاقتصاد السوداني والاستثمار الأجنبي والصديق، وسيدفع محمد احمد المسكين كل الصيانات والايجارات والاثاث في أقرب اتفاق سياسي (ومافي راجل خلى حقو لراجل .. ومافي حزب خلى حقو لحزب) خاصة وأن الجهاد بالمال قُدم على الجهاد بالنفس في الكتاب المبين.

أما الشعب السوداني فإنه بالقانون يستحق الممتلكات والمهج عدالة وايثارا. وللاستفادة من التاريخ والوقائع والعبر فلتكن آخر الوصايا على منضدة الفريق رئيس لجنة التفكيك هي (يا ود العطا صحِّح الخطا)

حسين خوجلي